بوادر إنفراج وكرم من التاريخ

الاميرة جورية

{سبحان الله وبحمده ..!
بوادر إنفراج وكرم من التاريخ

بوادر انفراج وكرم من التاريخ(1)

أعلن عن موعد المحاضرة الجديد، وعن موضوعها. فكان:ـ الدكتورة سارة تحاضر عن النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الموسم الثقافي للجامعة.
بدأت محاضرتها الثانية ، بعد الترحيب بالحضور وشكرهم، مخاطبة جموع الحاضرين، أعزائي الحضور الكرام، لقد اخترت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون موضوع محاضرتي في هذا الموسم، ثم أردفت قائلة كأني بكم تسألون لمَ الحديث عن النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؟ ما المسوغات التي تميزه عمن مرَّ بنا ذكرهم في المحاضرة الماضية ؟
سمعت همسات، ورأت نظرات، من لدن الحاضرين، دلت بمجموعها على صدق حدسها وعلى حسن تعبيرها، وصواب تقديرها.

فابتدأت تقول بكل ثقة وطمأنينة: توافر لدي من خلال البحث، أربع حقائق، تحمل بمجموعها إجابات شافية عن الأسئلة الماضية. فيما يبدو لي، والحكم إليكم، بعد الاستماع إليها.
أولها : توافر المعلومات التفصيلية، الصحيحة عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مراحل حياته جميعها، فليست في هذه السيرة التي استمرت ثلاثة وستين عاماً حلقة مفقودة، وليس فيها كذلك أي من علامات الاستفهام، التي مرت بنا عند الحديث عن بعض من سبقه من العظماء.
لقد اتفق كل من قرأ في سيرته، بإنصاف ـ وأنا منهم ـ ،على أنه كتاب مفتوح، أمام أتباعه، وأعدائه، على حد سواء.
من أبرز مظاهر هذا الوصف، أن الباحث لا يكاد يجد علامة استفهام في سيرته كلها، وفي أخص خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأجدني مضطرة، في هذا المقام، أن أفتح فهرسَ أصغر كتاب، وقع في يدي، حول جانب من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لنقف وإياكم على بعض ما احتواه من تفصيلات، أعترف أمامكم بأنني كدت أمل هذه التفصيلات، على الرغم من اتهامكم لي أنني ممن أُعْنَى بها ,وأسعى إليها، هذا الكتاب هو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه، تأليف جعفر بن حيان الأصفهاني، المتوفى سنة 369هـ، الموافق 952م تقريباً.
تضمن هذا الكتاب، وصفاً دقيقاً لجميع قطع ملابس النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفاً لجميع الأدوات التي كان يستعملها، ووصفاً دقيقاً لطريقة أكله، وشربه، ونومه، ودخوله، وخروجه، وجلوسه، وكلامه، وضحكه، وبكائه، وحواره وتعامله مع الناس.

وكذلك تضمن وصفاً دقيقاً مفصلاً لجميع أعضاء جسمه الظاهرة لأصحابه، وتضمن حديثاً عن الحيوانات التي كان يركبها، وأسماء هذه الحيوانات، وغير ذلك مما لا يتسع المقام له.
لم ينفرد بهذه المعلومة كتاب أو كتابان، بل إنها تكررت في مئات الكتب الموثوقة والمشهود لأصحابها بالمنهجية العلمية والصدق والنزاهة، وهذه دعوة مني بهذه المناسبة، لمن يرغب في الاطلاع، أن يقرأ في بعض هذه الكتب، وهو ما يؤكد بحق أننا أمام شخصية تُعد كتاباً مفتوحاً بكل صفحاته.
ويحسن في هذا المقام أن أستعين ببعض شهادات لمن سبقني بالكتابة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال ر. ف بودلي الباحث الإنجليزي المعاصر: ( إننا نجد أن قصة محمد واضحة كل الوضوح)(1).
فقد قال التاريخ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كلمته، بعيداً عن الأساطير، والتزوير، واستأنس في هذا الموطن بقول للأستاذ كلود كاهن، أستاذ التاريخ الإسلامي، في جامعة باريس، حين قال: ( اصطبغت شخصية محمد بصبغة تاريخية، قد لا تجدها عند أي مؤسس آخر من مؤسسي الديانات الأخرى)(2).
لقد عاش النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، ما يزيد على خمسين عاماً، وهي الشطر الأكبر من حياته، وكان أعداؤه فيها أضعاف أتباعه بكثير، ولم يجرؤ أحد من أعدائه أن يشكك في شيء مما تضمنته صفحات حياته، أو يدعي أحدهم أن في حياته صفحات غير واضحة.

سجل التاريخ محاورة مشهورة جرت بين أبي سفيان زعيم مكة خصم النبي محمدصلى الله عليه وسلم المشهور قبل أن يُسلم، وبين هرقل عظيم الروم، لم يستطع أبو سفيان، أن يزوِّر فيها شيئاً من الحقائق، أو يغيِّر فيها بعض المعلومات، خشية أن يسجل عليه التاريخ أنه كذب أمام هرقل عظيم الروم (1). لأن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم الحميدة ، كانت أشهر من أن تحرف، أو يتستر عليها.
ثانيها : كثرة الكتب، التي ألفت في سيرته، على مدى 1400 عام، فإنها تعد بالمئات. ويمكن لأي شخص، أن يستعين بقاعدة البيانات الموجودة في الجامعة، ويستخدم الطرفيات المرتبطة ببعض الجامعات الأخرى، ليتأكد بنفسه من صحة هذه المعلومة، وقد يصل الرقم معه إلى خانة الآلاف، إذا تحلى بالصبر وحرص على الاستقصاء، وإذا كنت لم أَجزم بعددها لأني لا أملك معلومات موثقة، فإني أنقل لكم ما ذكره المؤرخ الكبير ول ديورانت ، فقد قال في كتابه قصة الحضارة: ( إن ما يروى عن محمد من القصص ، قد ملأ عشرة آلاف مجلد )(2).
سوف يجد، المتتبع لهذه المؤلفات، أنها كتبت في أزمنة مختلفة، وفي بيئات مختلفة، ومن أشخاص مختلفين، وبمناهج مختلفة، ولكنها تكاد تجمع كلها، على ما تضمنته من معلومات.
وإن كان من خلاف بينها، فهو في الصياغة، وفي الإيجاز، والإطناب، وفي التحليل، وموقف المؤلف من هذه المعلومات، وهي مسألة اجتهادية لا إشكال فيها غالباً.
ثالثها : كثرة أتباعه، المحيطين به، فقد ذكرت لنا الكتب المعتمدة، في علم الرجال، والتي تلقاها الناس بالقبول، أنه صاحب النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قرابة عشرة آلاف صحابي، وهم ولا شك متفاوتون في هذه الصحبة، من حيث مدتها ، وطبيعتها.

لقد كان من حسن الحظ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات متواصلات، كان آخر أصحابه موتاً، فقد ثبت أنه مات سنة 93هـ ، فيكون قد عاش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 80 سنة، كما أن زوجته عائشة أكثر الناس قرباً منه، عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابة 45 سنة، فإنها توفيت سنة 58 هـ.
وكذلك ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وكان مقرباً منه، فقد عاش بعد النبيصلى الله عليه وسلم 55 سنة، فقد توفى سنة 68هـ ، وغير هؤلاء كثير، فقد أتيحت لهم الفرصة لينقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم كل ما حفظوه عنه، ورأوه منه، هم وغيرهم، ممن تجاوز عددهم الآلاف.

مما لا شك فيه، أنه كان حوله أعداد كبيرة جداً، يرقبون كل صغيرة وكبيرة في سيرته، حتى في أخص خصائص الرجل مع زوجته، فقد نقلت لنا زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم كيفية غسله بعد لقاء زوجاته، وكيفية نومه.
لقد نقلت هذه التفصيلات بأحاديث ذات أسانيد متصلة موثوقة، كان لها الفضل في إزالة أية علامات استفهام .
وقف على هذه الحقيقة، أستاذ الحضارة الإسلامية، الأستاذ هاملتون جب، فقال: ( لولا الحديث لأصبح لمحمد في أقل تقدير صورة معممة ـ إن لم نقل بعيدة ـ في أصولها التاريخية، والدينية، أما الحديث فقد صور وجوده الإنساني، في مجموعة وفيرة من التفصيلات الحية المحسوسة)(1).
وهو ما دفع أيضاً الباحث لورا فينسيا فاغليري إلى القول، وهو يتحدث عن الحالة الاجتماعية للأنبياء: ( يبدو أننا لا نعرف تفاصيل الحياة اليومية، لموسى، وعيسى، على حين نعرف كل شيء عن حياة محمد العائلية)(2).

وهذا مونته أستاذ اللغات الشرقية، في جامعة جنيف، يدلي بشهادة مماثلة فيقول: ( ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد )(1).
إن مما يعين على تقبل هذه المعلومات، والثقة بها، أنه نقلها غير واحد، وفي ظروف مختلفة، في ضوء علم الإسناد، وعلم نقد الرجال، الذي لم تعرف البشرية لهما مثيلاً.​
 

الاميرة جورية

{سبحان الله وبحمده ..!
بوادر انفراج وكرم من التاريخ(2)

كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأكثرهم حلماً، وكان أكرم الناس، وأكثرهم زهداً، وكان رحيماً، عادلاً، عفوَّاً، صادقاً، عفيفاً، أميناً، وكان مهيباً، وكثير التبسم، متواضعاً، وكان صلباً في الحق، وفي الوقت ذاته أشد حياءً من فتاة بريئة.
إن نظرة تأملية تحليلية لهذه الأخلاق، التي اجتمعت في شخصية النبي محمدصلى الله عليه وسلم تبين بجلاء، أن العظمة إنما تكون حين تجتمع الأخلاق كلها في شخص واحد، لأن القيم المجزأة، لا يمكنها أن تصنع عظيماً، ولا أن تسهم في سعادة البشرية.
ترجح لديَّ هذا الفهم أيضاً، حين استحضرت ما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، (من أن كل خلق يقوى بغيره من الأخلاق)(1).
عندما يتحقق هذا في شخصية ما ـ وقد تحقق في النبي محمد صلى الله عليه وسلم ـ يبرز من بين هذه الأخلاق، خلق يعرف به الشخص أكثر من غيره، وهذه حقيقة أقرها علم الأخلاق أيضاً، وفي هذا يقول العلامة دراز: ( إنه يجب أن تمارس النفس الإنسانية جميع القيم، قبل أن تتخصص في واحدة من بينها)(2)، دون أن يطغى هذا الخلق على غيره من الأخلاق الأخرى فيضعف أثره، ويقلل مكانته حتى تبقى كلها في أعلى درجاتها، وأكمل أوصافها.

توقفت الدكتورة سارة عن الحديث قليلاً، ثم قالت، كنت حريصةً، وما زلت، على أن تكون محاضراتي هذه أسهل طرحاً، وأيسر تناولاً، من تلك المحاضرات الأكاديمية في قاعة التدريس، ولكن يبدو أحياناً، أن الخيار لا يكون لنا، وإنما لطبيعة الموضوع، ولكن أعدكم أني سأكثر فيها من القصص الواقعية، والأحداث الثابتة الشيقة.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو على ما يبدو كذلك في بعض المواطن على أقل تقدير، فإني سأجتهد في اختصار هذه المحاضرة، حتى لا ينُسي بعضها بعضاً، وأختمها بالحديث عن مسألة مهمة، لها صلة بموضوعنا، وإن كنت لن أطيل فيها، تلكم هي الدوافع الكامنة وراء التخلق بالأخلاق الحميدة.
لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع، وكان مجمل قولهم في هذه الدوافع، إنها المنفعة المادية، أو السعادة الشخصية، أو البيئة، أو الضمير، أو القوة(2).
لا أود أن أناقش، هذه الدوافع، من حيث قيمتها، وأثرها، وهل هي دوافع مضطردة، أو لا؟ بيد أني أحسب أن الدافع الكامن وراء تخلق النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكل هذه الأخلاق التي سبق عرضها بإيجاز هو النبوة.
ذلك أن الله تعالى، يتصف بصفات الكمال، كالرحمة، والكرم، والرأفة، والعزة، والمغفرة. والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تخلقاً بأخلاق الله تعالى . فالخلق النبوي لا اعتبار فيه لأمر دنيوي، كمنفعة شخصية، أو تأثر ببيئة، أو تغير أحوال.

ولقد أدرك ر. ف . بودلي هذه الحقيقة، دون أن يذكر سببها، حين قال: ( أشك فيما إذا كان هناك رجل غير محمد تبدلت أحواله الخارجية، ذلك التبدل العظيم، ولم تتبدل نفسه)(1).
يسهل تفهم هذا الثبات، حين نستحضر أن هذه العظمة بكل مظاهرها، هي من فيض النبوة، فإننا وإن كنا نقر ونعترف، بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة إنساناً نبيلاً، ذا أخلاق كريمة، سامية، إلاَّ أن بروز عظمته، المتمثلة في اجتماع كل الأخلاق الفاضلة في شخصه بتوازن فريد من نوعه، كانت بسبب النبوة، كما أسلفنا.
لعل هذا الذي تقدم، يفسر لنا أيضاً، لمَ كانت أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم أخلاقاً باقية، دائمة على مر الدهور، حاضرة في كل زمان، صالحة لكل مكان، فهي لم تكن للعصر الذي نشأت فيه، ولم تختص بالفئات التي كانت تعنيها أول الأمر، ولم تكن وليدة بيئة النبي صلى الله عليه وسلم .

كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمارس هذه الأخلاق بأفعاله، أكثر من أقواله، وهو ما جعلها قريبة من الناس، مألوفة لديهم، ممكنة التطبيق.
أذنت الدكتورة باستراحة قصيرة، ثم واصلت بعدها الحديث ، قائلةً: وقد رأت وجوهاً جديدة في القاعة، لعلها لم تتنبه لها في بداية المحاضرة، أشكر الحضور الكرام على هذا التواصل، وعلى صبرهم كذلك، واسمحوا لي أن أخص بالترحيب وجوهاً جديدة، كأني أراها أول مرة، إن لم أكن مخطئة.
في الوقت الذي أرحب فيه بهم، أود أن الفت انتباههم، بأن محاضراتنا هذه، مثل سلسلة مترابطة، لهذا قد يتعذر على من حضر بعضها، أن يخرج بتصور متكامل، عن الموضوع الذي نعرض له، وعلى أية حال، فأحسب أنه يمكن تدارك هذا الأمر، بوسائل عدة.

صمتت الدكتورة قليلاً وابتسمت في وجوه الحاضرين، قائلة لا أخفي عليكم أني أفكر في أن أضع هذه الأوراق التي بين يدي بين أيديكم، أو على أقل تقديرـ تلك التي تتضمن نصوصاً، أو أرقاماً، فتحركت القاعة فرحاً بهذه البشرى، فاستدركت، قائلة، ولكن هذا لا يعني بحال ترك المتابعة، والتدوين، وهو أمر اختياري ولا شك، وهذا لا يخفى عليكم طبعاً.
أعزائي الحضور الكرام ..
تأملت كثيراً، الأخلاق التي عُرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعُرفت به أيضاً، فوجدتها كما ذكرت لكم كثيرة، فليس ثمة خلق حسن، إلاَّ وله فيه الحظ الأوفر، وربما سبب لي هذا الاستنتاج بعض مشقة، لأني أميل إلى تسليط الضوء على الخلق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم، من بين سائر الأخلاق، مع إقرارنا في محاضرة سابقة، بأنه تميز فيها كلها، ولكن أعني هنا، الخلق الذي كان أكثر ظهوراً من غيره.

وإن سأل سائل منكم، لمَ البحث عن خلق واحد، لينصب الحديث عليه، أقول له ولكم، إن منهجنا يقوم على تتبع المعلومات، وتوثيقها، وتحليلها، وهذا يستنفد كثير جهد، وطويل وقت، فيتعذر والحالة هذه، دراسة الصفات جميعها للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إن هدف هذه المحاضرات، هو السعي إلى تحديد صفة معينة إن أمكن ، إذا ذكرت ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر هو ذكرت هي أيضاً.
لقد كان لديَّ شعور ـ استناداً إلى ما عرضناه في المحاضرة الماضية ـ أني سأظفر بهذه الصفة، ويسرني، إبلاغكم بأنه تحقق لي ما أردت، كما بدا لي. فقد كانت هذه الصفة، هي صفة الرحمة،

هذه الصفة التي رأيت مظاهرها بارزة على البشرية قديماً وحديثاً ، فهو الخلق الذي امتاز به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الخلق الذي كانت من آثاره أكثر الأخلاق الأخرى. وإليكم مزيداً من التفصيل، والتحليل، وآمل أن لا أثقل عليكم.
 

الاميرة جورية

{سبحان الله وبحمده ..!
بوادر انفراج وكرم من التاريخ(3)

سلكت ثلاثة مسالك للبحث عن هذا الخلق والوصول إليه، وتحديده من بين الأخلاق الأخرى وهي:
الأول : النظر المتأمل في القرآن الكريم، وكنت أحسب أني سأجد فيه بغيتي، وما خاب ظني، فقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن، بهذه الصفة في آيات كثيرة، واشتق الله من هذه الصفة اسمين له سبحانه، وردا في آيات منها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الفاتحة: ٢، ومنها (إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) البقرة: ١٤٣، ومنها (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) الكهف: ٥٨.
حيث أثبت الله تعالى لنفسه، صفة الرحمة، وسمى نفسه بالرحمن الرحيم، تفضلاً على الناس ورحمة بهم، فأنزل إليهم ديناً وصفة الله بأنه رحمة بهم، في قوله تعالى: )أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ( )الزخرف: 32 (.
قال غير واحد، من مفسري القرآن، إن الرحمة هنا هي النبوة، والوحي، وكذا في قوله تعالى: )وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ( )القصص: 86 (.
لا بأس أن أذكر قول واحد من هؤلاء المفسرين لنطمئن إلى هذا الرأي، ونستأنس بقوله ، فقد قال المفسر العلامة الشنقيطي: ( والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي ، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن )(1).

وصف القرآن الكريم، بعد ذلك النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، كقوله تعالى: )لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ( )التوبة: 128 (، بل إن الله جعل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرحمة بعينها في قوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( )الأنبياء: 107(.
ليس يخفى عليكم، بعد هذا العرض، ما بين هذه الأوصاف من تناسب مبهر، فالله الرحيم، أنزل ديناً كله رحمة بخلقه، فكان من البدهي جداً، أن يحمل هذا الدين، شخص رحيم، فكان النبي محمداً صلى الله عليه وسلم.
لن ألوم أحداً، إذا نظر إلى بعض هذا الكلام، على أنه انطباعي عاطفي، فقد كنت قبل توافر هذه المعلومات التزم الحيادية، حين تطرح هذه القضايا، وكثيراً ما ألتزم الصمت، ما لم أضع بين يديَّ أدلة واضحة، تؤكد صحة ما أعتقد، وأرجو أن أوفق في هذه المهمة، ثم أترك لكل واحد منكم الحكم.
إن خلق الرحمة، هذا مناسب لتحقيق مراد الله تعالى، من إرسال الرسول بهذا الدين، فقد أرسله مفطوراً على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة، في تنفيذ شريعته(2).

لقد لفت انتباهي، في هذا المقام، أن الله تعالى، لم يصف أحداً من أنبيائه بوصف الرحمة، إلاَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد تحدث القرآن عن أربعة وعشرين نبياً، ووصفهم بأجمل الأوصاف، وأكملها، وعظَّم شأنهم، في كل موضع ذكروا فيه، إلاَّ أن أحداً منهم، لم يوصف بهذه الصفة، على كثرة صفاتهم الحميدة.
أراد الله تعالى لحكمة، أن يختص النبي محمداً صلى الله عليه وسلمبهذه الصفة ، دون أن يشاركه فيها أحد، مع أهمية التأكيد على أن أنبياء الله جميعاً، رحماء في تعاملهم مع أقوامهم، وفي حرصهم على إيمانهم، ولكن حديثي هنا عن الوصف بعينه.
المسلك الثاني: النظر في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي أقواله، وتوجيهاته، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع، في محاضرات قادمة، بيد أن ما أود قوله هنا، أن صفة الرحمة، كانت حاضرة في كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول، أو فعل، فهو الخلق الملازم لكل خلق، بل هو المهيمن عليه، والموجه له، ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مستحضراً هذا الخلق، في كل حركاته، وسكناته، يؤكد هذا قوله عن نفسه: ( إنما أنا رحمة مهداه)(1)، ولا أشك لحظة أنه كان يستحضر على الدوام قول الله تعالى له )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( )الأنبياء: 107(.

المسلك الثالث: وقد يبدو ظريفاً، نوعاً ما، ومختلفاً عما سبقه من مسالك، فقد كلفت طلاب إحدى الشعب التي أُدرِّس لها مقرر فلسفة الأخلاق، أن ينظروا في صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحدد كل واحد منهم الصفة التي يظن أنها أكثر ظهوراً من غيرها.
كم كان سروري عظيماً، حين اختار قرابة 60% منهم صفة الرحمة، أما أولئك الذين اختاروا خلقاً آخر غير خلق الرحمة، كخلق التواضع، أو الإحسان إلى الآخرين، أو العفو عند المقدرة، أو الشجاعة، أو صفاء النفس وطهرها، فإنهم لم يبتعدوا عن صفة الرحمة، لإن الصلة وثيقة بين الرحمة، وبين ما ذكروه، فهي إما دوافع كالشجاعة، فإن الرحمة الحقيقة التي تكون في موضعها، لا تتأتى إلاَّ ممن يتحلى بالشجاعة، وإما مظاهر للرحمة، كالإحسان إلى الآخرين، والتواضع لهم، والعفو عنهم.

يشهد لما ذكرت، تلك التعريفات التي أوردها العلماء لهذا الخلق، مع أني لست راغبة في التعرض لهذه التعريفات وتتبعها ـ في محاضرات كهذه ـ ومن ذلك قولهم: ( الرحمة حالة وجدانية، تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني، الذي هو مبدأ الإحسان) (1) .
ولعل أوضحها، وأيسرها، قولهم: ( هي رقة يجدها المخلوق في قلبه، تحمله على العطف، والإحسان إلى سواه، ومواساته، وتخفيف آلآمه) (2)، وهي الرحمة التي يناسب أن يوصف بها المخلوق.
بيد أنه استرعى انتباهي ، تعريف وجدته عند ابن القيِّم ، جاء فيه: ( الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية. فأرحم الناس من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك)(3).

لقد أضاف ابن القيِّم بعداً جديداً لمفهوم الرحمة، كما ترون، وهو أنها تعني أن تمارس الرحمة على من تحب، وإن لم يرحب بهذا، كما يحصل مع الطبيب ومريضه، بخاصة أطباء الأسنان منهم، فكل واحد منا له قصة مع أطباء الأسنان.
قبل أن تنهي محاضرتها، وعلى غير عادتها في المحاضرات الماضية، سألت د. سارة الحاضرين، بعد أن شكرتهم على الحضور، وحسن الاستماع، قائلة، من لديه اقتراح، أو وجهة نظر معينة، قبل أن نمضي في محاضراتنا ، ولكن اسمحوا لي أن أقدم اقتراحاً قبلكم، وهو أننا من الآن فصاعداً، سوف نستعمل في حديثنا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لقب نبي الرحمة، وأحسب إنكم موافقون، وسوف تزداد قناعتكم شيئاً فشيئاً.
وقف أحد الحاضرين، وقال لها، نقدر لك هذا العرض، ولقد حصل بيننا نقاش حول الأسباب الكامنة وراء سوء الفهم لسيرة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم من قبل غير المسلمين، بخاصة في البلاد الغربية عموماً، وكم نتمنى أن نسمع رأي محاضرتنا الرائعة في هذا الموضوع، ومما يشجعنا على هذا الطلب، أن واحداً ممن شارك معنا في النقاش حول هذا الموضوع، أبلغنا أنه سبق أن سمع منك شيئاً عن هذه المسألة، في مداخلة لك سابقة.
أبدت الدكتورة سارة ترحيبها، بهذا الاقتراح، وفهم الحاضرون من كلامها، أن لديها ما تقوله، في هذا الشأن، وقد أخبرت الحاضرين، أنها ستسعى جاهدة، للحديث عن هذا الموضوع، في بداية المحاضرة القادمة.
 
أعلى