. تَـ غْ ـــريبة وطــــ.ــــ.ــــنْ

الاميرة جورية

{سبحان الله وبحمده ..!
في تمام الساعةِ ،العاشرةِ صباحا , علت أصوات

المكبرات في مطار نيويورك ؛ معلنةً عن موعد اقلاع الطائرة

المتجهة إلى مطار بيروت .

هرولت ( صبا ) مسرعة ،صوب البوابة ،أمسكت بحقائبها ،واتجهت نحو البوابة

رقم 6 ؛اُستعداداً لركوب الطائرة .

وبينما هي واقفة في صفٍ طويل من المسافرين

المتدافعين على البوابة ؛ لم تُفرغ ذاكرتها في التفكير

بالوطن ؛ وكأنها تُسابق الوقت للوصول ، لتَلغى من حياتها

عشرَ سنوات، قد سُرقت منها في الغربة .

وهي مُنهمكة في تلك الأفكار ،سَمعت صوتاً ينادي :

سيدتي فلتتوجهي إلى الطائرة، لم يعد هناك وقت.

حان وقت الإقلاع.

اتَجهت ( صبا) نحو مدخل الطائرة ،بعدما

أطمأنت على كل شيء.

كانت قد حجزت مقعدا في الدرجة الأولى ،جلست وهى تحاول

أن تهدئَ نفسها قليلاً ،وتسيطر على الأفكار

التي تتصارعُ بأعماقهــا أغمضت عينيها محاولةً

أن تسبق المسافات،وتخترق الغيوم وتتخطى الحواجز ،

وتعبرالمحيطات ، وتتسلق الجبال..؛

لتصل إلى ذلك الزمن ،الذي مضى عليه أعوام..؛

حدثت نفسها بصوتٍ يشبه الهمس :

يا آلهي كم اشتقت للجميع ، وإلى (العم أكرم)..؛

كنت طفلته المدللة ،كان يستقبلني وأنا عائدة من

كليتي ببسمة ،وبيده حبة من الآيس كريم؛لأبلل بها عروقي ،

وأثلج صدري ..؛

فارتوي وأطبع على جبينه قبلة شكر ،وإمتنان.

كان( العم أكرم ) ، جارنا في الطابق السفلى،

يمتلك محلاً صغير لبيع الحلويات والمثلجات .

ابنته (أمل ) كانت من أعز صديقاتي، لم نفترق يوماَ ؛

فكلما سكنني الحزن ،ألجأ إليها أرتمى بحضنها،

وأفرغ ذلك الجبل من الهموم الرابض فوق صدري

كُنا نبكى معاً ، ونفرح معاً .

يا ترى ؟ هل ما زالت كما هي ؟؟

فمنذ أول سنة ،من هجرتي ؛إنقطعت أخبارها

وبدوري أنا انغمستُ في دوامة غربتي
كم أشتاقُ لها ، وأشتاقُ لتلك الأيام .

وبينما كانت (صبا )غارقة بذكرياتها

قاطعتها المضيفة متسائلة : سيدتي هل تريدين بعضاً

من الشراب الساخن أو البارد ؟؟

فتحت صبا عينيها ،وبحركة ثقيلة

من رأسها يميناً ،ويساراً فهمتِ المضيفة أنها لا ترغب بشيء

وأغمضت عينيها من جديد ،محلقة بذاكرتها إلى ذلك البيت ، الذي تربت

به [وكانت تلك السنوات أجمل أيام عمرها]

كان بيتاً يملؤه الحُب ، ينعم ساكنوهُ

بالهدوء والسلام ، والدفء والحنان، وسرحت بذاكرتها في غرفتها

وتفاصيلها تلك الغرفة التي امتلأت بشقاوتها

وضحكاتها البريئة وبكائها ، وكل معالمها الطفولية ؛

كانت تفاصيلاً محفورة بذاكرتها وبكل ركن في غرفتها

وتلك النافذة تذكرت (صبا ) كيف كانت تُراقب كل مساء

من خلالها وهج الشمس ،وهي تغفو بأحضان البحر مخلفةً وراءها

لوحة فنيةً ساحرة ، بلونها الوردي حتى يسدلُ المساء ،

ستائره الليلية، المنسوجة بحبات اللؤلؤ...

وفى الصباح الباكر ما زالت تتذكر

كيف كانت خيوط الشمس تداعب

الأزهار ؛ لتنهض من سباتها ويفوح

عطرها بكل مكان

كان كل شيء مبتهجاً .

النسوة يتجمعن ، لإرتشاف قهوتهن

الصباحية ، والأطفال يلعبون بسرور

تنهدت تنهيدةً كبيرة وتمنت أن تصل

مسرعة؛ لتكون بأحضان تلك الأيام

فإذا بعجلات الطائرة ،ترتطم بالمدرج ؛ لتصحو

وإذا بصوت المضيفة يعلن لركاب الطائرة

وصولهمْ بخير وسلام

أحستْ صبا بقشعريرة ، و تزايدت ضربات قلبها

حاولت أن تسيطر على نفسها..

أخذت نفساً عميقاً ،واتجهت مسرعة

صوب بوابة الخروج من الطائرة

وأنهت إجراءاتها بسرعة مغادرة أرض المطار

مشيرةً لأقرب سيارة تاكسي كانت تقف بالقرب

من المطار فلا أحد يعلم بمجيئِها

ولم تُعلم هي أحداً بذلك.

وأصبحت السيارة ،تشق الطريق بسرعة

وهي تتجه لذلك المكان، الذي لطالما

إنتظرته سنيناً ،وسنينا ،

وكلما اقتربت المسافة ،كانت دقات قلبها تتزايد..

إلى أن وصلت.

ترجلت من السيارة ، و بدا لها لوهلة

أنها أخطأت العنوان .

فكل شيء تغير ، تغيرت الصور القديمة

التي كانت ترتسم في مخيلتها ..

شعرت بالغربة تتسلل لأعماقها ، وهي ترى

أرصفة المكان مهجورة .. والشوارع

غطتها معالم الغربة

وفي ذروة ذلك التزاحم الغريب في مخيلتها..

وفي دواخلها حاولت أن تعلق

بصرها ، بوميض الذاكرة ، وتتسلل عبر هذا

الظلام الموحش ، علّها تبصر بعضاً

من الماضي ، وتشتم نسيم الحنين ؛

ولكنها كانت كمن يدور ويبحث في خارطةٍ

لمعالم خارجة عن الوطن ،المختزل في ذاكرتها

حاولت أن تمسك بطرف أي خيط

يقودها للماضي ،ولكن كل شيء

من الواضح أنه إنقطع

عادت من جديد وصوبت نظرها إلى تلك النافذة ،

واقتربت بهدوء ، إلى مدخل العمارة

صعدت السلم مسرعة ، والخوف يحيطها

من كل الإتجاهات

كان بيتها بالدور الثالث ؛ وصلت وأنفاسها

تتلاحق ومــاتزال علامات الاستفهام ، تطرق عقلها

اقتربت من الباب ، وبينما هي تحاول أن تضغط

على الجرس

تراجعت ، ونظرت إلى حقيبة يدها

فقد كانت تحتفظ بنسخةٍ من مفتاح البيت .

تساءلت بينها وبين نفسها

ترى ؟

هل غيروا قفل الباب ؟؟

لأجرب ،وأجعلها مفاجئة لهم ..؛

وبسرعة مدت يدها داخل الحقيبة

وأخذت المفتاح ..

فابتسمت عندما سمعت القفل

يدور عكس عقارب الساعة ،لينفتح الباب..؛

وتتسللت بهدوء إلى داخل البيت

لم تجد أحداً ، كان المكان صامتاً

بحثت هنا وهناك ، فوجدت أمها

فوق سجادة الصلاة تسبح ،و تذكر الله، و تشكره .. و انتظرتها حتّى انتهتْ

و أسرعت نحوها ،ركعت أمامها، وقبلت يديْها ،

وبدهشةٍ ولهفةٍ عانقت الأم أبنتها

كانت أطول لحظة عناق ،بين صبا ووالدتها ،

جلست (صبا) بحضن والدتها، تبكي بكاءً..

قد يكون للفرح ،والشوق ،والانتماء أكثر

ثم بعد أن هدأت نوبة كل هذا المشهدِ

الإنفعالي العاطفي

أشارت (صبا )نحو النافذة ، متسائلة بغرابة ..

أمي .. أين الجميع ؟!

أجابتِ الأمُّ وعيناها مغمضتان :تغرب الوطن برحيلكم



تــ م ـــت

مما راق لي

 
أعلى